**تصدعات القيم الغربية في ظل حرب غزة- أزمة هوية ومستقبل مُبهم**

لقد أسفرت الحرب الروسية الأوكرانية عما يسميه الخطاب الروسي الرسمي بـ "ائتلاف الغرب"، وهي عبارة تحمل في طياتها ازدراءً للغرب وقيمه، مشيرةً إلى تحالف قوى لا يرتكز على التقاء القيم أو القواعد، وذلك بهدف تقويض الادعاءات الكونية للقيم الغربية الزائفة.
وفي هذا السياق، من المرجح أن تُفضي الحرب المستعرة على غزة إلى تصورات جديدة للأوضاع الجيوسياسية المضطربة، وأن تؤثر بشكل بالغ الأهمية على الغرب، سواء من حيث قيمه الجوهرية، أو تماسك مجتمعاته، أو حتى الصورة النمطية المتكونة عنه. ففي أعقاب اندلاع عملية "طوفان الأقصى"، بدا وكأن الغرب يتحدث بصوت واحد، ويدعو إلى موقف موحد، باعتبار أن هذا الحدث الجلل ليس مجرد ضربة لإسرائيل، الحليف الذي يمثل "رأس حربة الغرب في المنطقة"، بل هو اعتداء سافر على منظومة القيم الغربية برمّتها. وسارع قادة القوى الغربية الكبرى إلى التعبير عن تضامنهم الكامل مع إسرائيل، لكن هذا "الصف" الغربي سرعان ما بدأت تتخلله تصدعات عميقة.
والسبب الجوهري وراء هذا التصدع هو جنون القتل والتدمير الممنهج الذي صدم العالم بأسره، حتى أن بعض أشد المدافعين المتحمسين عن إسرائيل لم يعودوا قادرين على التغاضي عن هذه الفظائع، وبدأوا يصفون ممارسات إسرائيل بأنها تطهير عرقي كامل الأركان. والأمر الآخر الأكثر أهمية، هو أن العديد من الغربيين، بمن فيهم القادة وصناع الرأي، شعروا بأن قيم الغرب أصبحت على المحك في عالم لم يعد فيه للغرب تلك الهيمنة المطلقة التي كان يتمتع بها في الماضي، في ظل بروز قوى جديدة على الساحة الدولية.
ويعبر قادة الغرب عن هذا الوضع بنوع من الازدواجية الصارخة، إذ يزعمون التمسك بما يدعون أنها قيم غربية راسخة، وهو المعيار الذي يميزهم عن القوى الأخرى التي تُنعت بالسلطوية، على الرغم من أن تصرفاتهم غالبًا ما تتعارض بشكل صارخ مع تلك القيم المعلنة، خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وجرائم الحرب، والإبادة الجماعية، أو حرية التعبير، ويضطرون لتقديم تبريرات واهية وغير مقنعة على الإطلاق.
وتتجلى أعراض هذا التصدع على ثلاثة مستويات مختلفة:
- أولًا: التباين المتزايد بين الدول الغربية نفسها. إذ نلاحظ وجود تمايز واضح بين الولايات المتحدة وبريطانيا الحليفة المقربة، وألمانيا، ودول أوروبا الوسطى من جهة، وبين دول أوروبية أخرى، مثل أيرلندا وإسبانيا والسويد، التي تدين العدوان بشكل لا لبس فيه، ودول أخرى تتخذ موقفًا أكثر تذبذبًا وترددًا، مثل فرنسا. وقد انتقل هذا التصدع إلى داخل المجموعة الأوروبية، وبات يسري توتر خفي بين فرنسا وألمانيا على وجه الخصوص، خاصة بعد إعلان ألمانيا عن عزمها دخول نادي التسلح.
ويضاف إلى هذا الاختلاف الجلي داخل الاتحاد الأوروبي، التباين الصارخ بين مسؤول العلاقات الخارجية بالاتحاد، جوزيف بوريل، المناهض للحرب، والذي يعتبر أن ما يجري في غزة هو إبادة جماعية صريحة، ويدعو إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة، وبين رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين، التي تتبنى موقفًا متواطئًا بشكل سافر مع إسرائيل. - ثانيًا: التصدع المتفاقم بين المؤسسات الحاكمة في الغرب ومجتمعاتها. وهنا يكمن جوهر المشكلة، إذ أن أساس الديمقراطية يرتكز على التطابق التام بين الحاكمين والمحكومين، وأي خلل في هذا التطابق يعرض الديمقراطية للاهتزاز الشديد. فالديمقراطية، بالنسبة للغرب، ليست مجرد آلية لإدارة العلاقة بين الحاكمين والمحكومين فحسب، بل هي قيمة القيم المطلقة، على حد تعبير المفكر المغربي المهدي المنجرة.
وتسود حالة من التوتر والقلق المتزايد في أوساط فعاليات المجتمعات الغربية، تشبه إلى حد كبير تلك التي شهدتها الدول الأوروبية في فترة ما قبل الاستقلالات، كما في فرنسا إبان حرب التحرير الجزائرية، أو تلك التي انقسمت فيها الولايات المتحدة في منتصف الستينيات وحتى بداية السبعينيات أثناء حرب فيتنام. ويتميز الوضع الجديد الناجم عن الحرب على غزة، بتوجيه إعلامي مكثف، وتعتيم ممنهج، وتضليل متواصل، أو ما يسمى في فرنسا بـ "الغرق الإعلامي". - ثالثًا: التصدع المرتبط بالثاني، وهو اهتزاز منظومة القيم الغربية، وعلى رأسها حرية التعبير، وحقوق الإنسان، والديمقراطية. فالعالم بأسره يشاهد كيف يتم اقتحام حرم الجامعات من قِبل قوات الأمن، ويُقتاد الطلبة بالقوة، وتُتخذ إجراءات قمعية وزجرية ضدهم، وتوجيه التهديدات والوعيد لهم، (مما يتنافى بشكل صارخ مع سيادة القانون)، ومنع المظاهرات والاحتجاجات السلمية بدعاوى واهية وافتراضية لا أساس لها من الصحة. والأمر الأكثر إثارة للدهشة في الغرب، هو منع التظاهر السلمي، واستعمال القوة المفرطة لفضه، واقتياد المتظاهرين إلى مخافر الشرطة، ومتابعتهم قضائيًا بتهم ملفقة.
تستند المكارثية الجديدة إلى أسلحة "دمار شامل" ثلاثة، أولها: "الإشادة بالإرهاب".. والثانية: "معاداة السامية"، والثالثة: "كراهية الغرب"
وترد حكومات الغرب على الوضع الخطير الناجم عن الحرب على غزة، بنوع من ازدواجية الخطاب المخادع، إذ تزعم دعمها لحرية التعبير، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، وفي الوقت نفسه تحاول تقديم تبريرات غير مقنعة على الإطلاق لانتهاكات إسرائيل. ومما ينسف هذه التبريرات الواهية، هو المكارثية الجديدة، أي تعقب الأشخاص ومعاقبتهم بسبب تعبيرهم عن شجبهم للحرب، سواء من خلال تدوينة بسيطة، أو مشاركة في مظاهرة سلمية، أو حتى مجرد حمل الكوفية الفلسطينية، أي بأساليب حضارية لا تنطوي على أي عنف. وتذهب مؤسسات حكومية وأكاديمية إلى حد توعد هؤلاء الأشخاص بالتأثير سلبًا على مسارهم المهني وحقوقهم المشروعة، لمجرد أنهم تظاهروا ضد الحرب، أو أبدوا تعاطفهم مع الشعب الفلسطيني المظلوم.
وتستند هذه المكارثية الجديدة إلى أسلحة "دمار شامل" ثلاثة، تُستخدم بشكل مكثف في وسائل الإعلام، وحتى من قِبل النيابة العامة، أولها: "الإشادة بالإرهاب".. والثانية: "معاداة السامية"، والثالثة: "كراهية الغرب".
وهكذا، فإن مجرد شجب الحرب، والدفاع عن حق الفلسطينيين في الحياة الكريمة، ورفض التهجير القسري، يُعتبر إشادة بالإرهاب، إعلاميًا، ويمكن أن يتطور الأمر إلى متابعة قانونية، من خلال تأويل فضفاض ومغرض للنصوص القانونية.
كما يُعتبر كل انتقاد للممارسات العدوانية التي تقوم بها إسرائيل، معاداة للسامية، على الرغم من وجود فرق شاسع بين حدث معين، وهو العدوان، ودولة، وهي إسرائيل، وأيديولوجية، وهي الصهيونية، ودين، وهو اليهودية. والحال أن العديد من اليهود انتقدوا الحرب بشدة، وأن العديد من الإسرائيليين أنفسهم فعلوا ذلك، لكن الغرب لم يعد يكترث بالتمييز بين هذه المفاهيم، على الرغم من أنه كان يفتخر في الماضي بقدرته على التمييز الدقيق بين مختلف القضايا. فلا فكر من دون تمييز واضح.
والسلاح الأخير الذي يتردد صداه في وسائل الإعلام، هو "كراهية الغرب"، والحال أن العديد ممن ينتقدون تذبذب الغرب، هم غربيون أو متغربون، أو يكتفون بإظهار التناقض الصارخ بين قيم الغرب المعلنة، وسياسات حكامه الفعلية، أي أنهم يطالبون بالتمسك بتلك القيم الغربية النبيلة.
إن قوة الغرب لا تكمن في قدراته العسكرية والاقتصادية فحسب، بل أيضًا في قيمه الرفيعة، وهو الأمر الذي لا يمل القادة الغربيون من التذكير به، منذ الحرب العالمية الثانية، وما كانوا يسمونه بالعالم الحر، ثم أثناء الحرب الباردة، وبعد سقوط جدار برلين، وأحداث 11 سبتمبر. لكن التصدع بدأ يعتري هذه القيم الغربية، في سلسلة من الأحداث المؤسفة، بما في ذلك العنف المفرط ضد السترات الصفراء في فرنسا، واقتحام الكابيتول في الولايات المتحدة.
لكن التناقض الصارخ الذي فضحته غزة، من شأنه أن يضع الغرب في أزمة إبستمولوجية حقيقية، أي التناقض الصارخ بين ما يزعم من قيم نبيلة، وما يرتكب من أفعال شنيعة، وهو ما ينسف عالمية الغرب، أو قيمه على الأصح. ولذلك لم يعد بعض مفكري الغرب يتحرجون من الدعوة إلى غرب شامل، في مواجهة جنوب شامل، أي محور ككل المحاور، وليس مجرد منظومة قيم مجردة.
